تأتي هذه النشرة الخاصة ضمن إطار مشروع "وجهات نظر سورية" والذي يهدف إلى توفير منبر يتوجه من خلاله باحثون وناشطون سوريون من الداخل (وكذلك من الخارج) السوري إلى جمهور من القراء في شتى أنحاء العالم لاطلاعهم على الأساطير المتداولة والحقائق الواقعية المحيطة بالنزاع السوري. صحيح أن ليس هنالك قصور في كم التحاليل الخاصة شبه اليومية حول النزاع السوري من وجهة نظر المحللين الأجانب (أو من يسمون بخبراء في الشأن السوري)، ولكن ما نستفقده بشكل كبير في خضم هذا الزخم من التحاليل هو وجهات نظر الباحثين والناشطين السوريين الذين لا زالوا يعيشون في بلدهم سوريا والذين وبحكم تواجدهم في الداخل يفهمون نبض مجتمعهم وطبيعة وتعقيدات هذا النزاع. يطمح مشروع "وجهات نظر سورية" والنشرة الخاصة هذه إلى ملء الفجوة المعرفية السائدة حول المجتمع السوري والدولة السورية.
في هذه النشرة الخاصة يقوم أربعة من الباحثين السوريين بتسليط الضوء على العلاقات بين مختلف الجماعات العرقية والدينية والطائفية في سوريا. وقد ساهمت وتيرة العنف غير المشهودة سابقاً وارتفاع نبرة الطائفية في تقديم المسهّلات والمغريات لتصنيف النزاع الحالي الذي ابتدأ بتظاهرات سلمية بأنه مجرّد نزاع طائفي تقوده جماعات متحاربة فيما بينها. وهذا هو ما يمارسه في واقع الحال الإعلام الدولي ورؤساء العالم، ومثال ذلك ما صرح به الرئيس الأمريكي أوباما في مقابلة أجرته معه قناة ال"سي ان ان" الأمريكية في 23 آب/ أغسطس من هذا العام، حيث صنّف النزاع السوري صراحة على أنه مشكلة طائفية معقدة (تم الدخول على صفحة الويب المتضمنة لهذه المقابلة في 29 آب/ أغسطس 2013 من خلال الرابط:
http://cnnpressroom.blogs.cnn.com/2013/08/23/president-obama-gives-exclu...?(
ولكن، هل هذا ما يعكس الواقع فعلاً؟
تم تأسيس سوريا الحديثة في عام 1920 حصيلة تسوية بين القوتين الاستعماريتين المملكة المتحدة وفرنسا. في هذه الدولة الحديثة كانت الطائفة السنية لا تشكل فقط الأكثرية السكانية المطلقة بل أيضاً النخب المالية والبيروقراطية والمثقفة، فكان ذلك سبباً في عدم رؤية الطائفة السنية داعياً لإبرام عقد اجتماعي وسياسي مع الجماعات الأهلية الأخرى. ومن جهة أخرى، شكّل انعدام حدوث صدامات عنيفة بين الجماعات الأهلية في سوريا تاريخياً وتمتعها بسلم أهلي دائم سبباً إضافياً قوياً للجماعات الأهلية المختلفة لعدم حاجتها لوضع عقود دستورية وقانونية وسياسية لتنظم العلاقات بينها. ومع ذلك فقد عاش المجتمع السوري العديد من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العميقة والتي تركت بصمات وآثار واضحة على العلاقات بين الجماعات الأهلية، لا سيما حقبتا الحكم الوحشي التسلطي الأسدي (الأب والإبن)، والثورة التي اندلعت في شهر آذار/ مارس 2011 وما جرّته خلفها من ازدياد في النزعات الطائفية في سوريا. كل ذلك ساهم في نشوء ديناميات ومداولات اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة أدت إلى تحول في العلاقات الأهلية السائدة.
تحاول هذه النشرة الخاصة تشريح وتفكيك الأساطير وتركيبة العلاقات المعقدة بين الجماعات الأهلية في سوريا، مثل العلاقات بين العلويين والسنة في مناطق الساحل السوري، وبين الأكراد والعرب شمالاً، وبين الدروز والسنة في منطقة حوران، وبين الجماعات الأهلية المختلفة في دمشق وريفها. وبما أن التاريخ لا يبدأ اليوم فإن المؤلفين المساهمين في هذه النشرة الخاصة يأخذوننا في جولة تاريخية تحليلية مثيرة ومقتضبة من بدايات تكوين سوريا الحديثة وواقع العلاقات بين الجماعات الأهلية حينها، مروراً بالتحولات التي طرأت على هذه العلاقات، ووصولاً إلى بدايات الثورة وما تبعها من تداعيات. وفي هذه الجولة يفكك الباحثون التركيبة المعقدة للعلاقات بين الجماعات الأهلية، وذلك من خلال حل شيفرة مكوناتها المرئية وغير المرئية من آليات وسلوكيات وأنماط تواصل تحكم هذه العلاقات. وقد استطاع الباحثون فك هذه الشيفرة بسبب معرفتهم العميقة بمجتمعاتهم، وفهمهم للحساسيات القائمة بشكل متبادل بين الجماعات الأهلية، كما واتباعهم الصارم لمعايير التحليل الصحيحة. ويختتم الباحثون دراستهم بتقديم تأملات فكرية حول ما يمكن أن يؤول إليه حال العلاقات بين الجماعات الأهلية في سوريا مستقبلاً.